أكثر الكلمات انتشاراً

لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

بعد إعلان الصحة العالمية.. حكايات على هامش مجاعة غزة

كتب- أحمد فوزي

02:37 م الأحد 24 أغسطس 2025

في ركنٍ مظلم من خريطة الوجع، بلا ماء ولا كهرباء، وفي بيت لم يعد كما عرفه أهله بل بقايا جدران تتنفس الخوف، تجلس رنا حماد، أم فلسطينية من جباليا، تحمل طفلين وحقيبة ذاكرة ثقيلة.. نزحت من شمال غزة بعد موجة قصف ابتلعت كل ما تملك، ولم يتبقِ لها إلا الحسرة.

رنا لا تروي تفاصيل فقط، بل تفتح جرحًا يوميًّا بحجم وطن، وتحكي عن "نظام غذائي" لا علاقة له بالتغذية، بل هو محاولة نجاة.. مجرد وسيلة للصمود، لا أكثر.

الإفطار.. شايٌ مُر وغصّة

"الصبح بنشرب شاي مر، بلا سكر.. بس عشان نسكت الجوع"، هكذا تبدأ رنا يومها مع طفلين يتقاسمان الحلم والجوع معًا.

الغداء؟ إن جاء، يأتي في الرابعة عصرًا، وجبة لا تحمل من اسمها سوى المحاولة. عدس بلا خضار، رز بالماء، مكرونة تُسلق فقط بالملح، بلا زيت أو صلصة أو بهارات.

"كل واحد بياخد كمية صغيرة.. ما بتشبع، بس بنقنع نفسنا إنها كفاية"، أما العشاء، فهو غير موجود من الأساس.

تقول رنا: "بنصوم لتاني يوم.. أنا بترك حصتي لأولادي، وبكتفي بشرب ميه وملح.. أو فيتامين لو توفر".

الطحين.. كنز الغائبين

الدقيق هنا عملة نادرة. كل يومين، تشتري الأسرة كيلو دقيق، يُقسم على يومين، ويُطهى بأي شيء يمكن إضافته: دقة، طعمية، أو علبة حمص غالبًا مغشوشة.

لكن الكارثة ليست في الندرة فقط، بل في الجودة. "الطحين ممكن يكون فيه رمل أو دود، أو متعفن.. بس بناكله، ما في خيار".

الطفولة تُذبح كل يوم

حين ينام الأطفال على الجوع، ويستيقظون عليه، لا تعود الكلمات كافية، ولا الصبر مُجدٍ.

"بيناموا وهم بيقولوا: جوعان يا ماما.. وبيصحوا على نفس الكلمة، حتى عالجوال، بطلبوا يتفرجوا على صور أكل".

تتوقف رنا لحظة، تصمت، ثم تكمل: "نفسي أشرح لهم.. بس مش فاهمين.. مرات بعصب، وأحيانًا ببكي".

السوق تحت النار

الخضار متوفرة، ولكن بأسعار خيالية. "الناس مش قادرة تشتري، وحتى المعروض قليل جدًا"، المساعدات تصل، ولكنها لا تكفي، ويُقال إن كثيرًا منها لا يصل أصلًا.

أما المخابز، فتعاني من نقص السولار، والتنقل شبه مستحيل، فالبنزين عملة مفقودة، وأولويات البقاء تسبق كل شيء.

لا بيت.. لا دفء.. لا شيء

"فقدت بيتي وبيت أهلي.. والدي كفيف، وأخويا مصاب، وأنا لحالي مع ولادي"، بهذه الكلمات تختصر رنا ما لم تختصره الحروب.

تقول: "الحياة صارت نار.. لا غاز، لا غسالة، لا ميه.. إحنا بنعيش من قلة الموت".

تحت جناح الطائرات.. لا نوم ولا راحة

وفي ختام حديثها، قالت ما يعجز القلب عن تحمله:

"بالليل بنحاول ننام، بس القصف بيصحّينا كل ساعة.. الشوارع ظلام وخراب.. إحنا ما بنعيش، إحنا بننجو كل لحظة".

رنا، التي كانت تسكن يومًا بيتًا دافئًا، تحلم اليوم فقط بلقمة تُسكت صراخ أطفالها.

قالتها وفي صوتها حشرجة أم اختزلت الوطن كله في حضنها:

"لو يوم قريتوا اسمي ضمن الشهداء، اعرفوا إنه هيك ارتحنا.. وتحققت أمانينا".

المجاعة تصبح حقيقةً مؤكدةً لأول مرة في غزة

أكثر من نصف مليون شخص في غزة محاصرون في مجاعةٍ تتسم بانتشار الجوع الشديد والفقر المدقع والوفيات التي يمكن تجنبها على نطاق واسع، وفقًا لتحليل جديد للتصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي صدر عن منظمتي الصحة العالمية والفاو، ومن المتوقع أن تنتشر ظروف المجاعة من محافظة غزة إلى محافظتي دير البلح وخان يونس في الأسابيع المقبلة.

الصحة العالمية: ضرورة وقف المجاعة بأي ثمن

وقد أكدت هذه الوكالات أنه يجب وقف المجاعة بأي ثمن، إن لوقف إطلاق النار الفوري وإنهاء الصراع أهميةٌ حاسمةٌ للسماح بالاستجابة الإنسانية التي يمكن أن تنقذ الأرواح على نطاقٍ واسعٍ ودون عوائق. ويساور الوكالات قلقٌ بالغٌ إزاء التهديد بشن هجوم عسكري مُكثّف في مدينة غزة وأي تصعيد في النزاع، لأن ذلك سيكون له عواقب مدمرة أخرى على المدنيين في الأماكن التي تمر بالفعل بظروف المجاعة، وقد يتعذر إجلاء العديد من الأشخاص، لا سيما الأطفال المرضى الذين يعانون من سوء التغذية وكبار السن والعَجَزة.

انعدام الأمن الغذائي في غزة

وبحسب الصحة العالمية، سيواجه أكثر من 640,000 شخص في سبتمبر المقبل، مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي مصنفة على أنها المرحلة الخامسة من التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي في جميع أنحاء قطاع غزة.

وسيكون 1.14 مليون شخص آخر في الإقليم في حالة طوارئ (المرحلة الرابعة من التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي) و396,000 شخص آخر في حالة أزمة (المرحلة الثالثة من التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي).

وتشير التقديرات إلى أن الظروف في شمال غزة شديدة – أو أسوأ – مما هي عليه في مدينة غزة، ومع ذلك، فقد حالت محدودية البيانات دون إجراء التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، وهو ما يسلط الضوء على الحاجة المُلحة إلى إتاحة إمكانية الوصول من أجل تقييم الوضع وتقديم المساعدة، ولم يتسن تحليل الوضع في رفح في ضوء مؤشرات تفيد بأنها مهجورة إلى حد كبير.

تقديرات كارثية لسوء التغذية والموت بسبب الجوع

ويشير تصنيف المجاعة إلى بلوغ الفئة الأكثر شدة عند تجاوز ثلاث عتبات حرجة هي:

- الحرمان الشديد من الغذاء.

- سوء التغذية الحاد.

- الوفيات المرتبطة بالجوع.

ويؤكد أحدث تحليل الآن أُجرِي على أساس بيّنات معقولة أن هذه المعايير قد تحققت.

وقد وصل الناس إلى مرحلة الجوع الشديد بعد ما يقرب من عامين من النزاع، والنزوح المتكرر، والقيود الشديدة المفروضة على وصول المساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى الانقطاعات المتكررة والعقبات التي تحول دون الحصول على الغذاء والمياه والمعونة الطبية ودعم الزراعة والثروة الحيوانية ومصائد الأسماك، وانهيار النُظُم الصحية والصرف الصحي والأسواق.

آلاف الأسر تعاني المجاعة في قطاع غزة

وأكدت منظمة الصحة العالمية، أنه لا يزال الحصول على الغذاء في غزة مقيدًا بشدة.

وفي يوليو، تضاعف عدد الأسر المعيشية التي أبلغت عن جوع شديد جدًا في جميع أنحاء الإقليم مقارنة بشهر مايو وتضاعف أكثر من ثلاثة أمثال في مدينة غزة.

وأشار أكثر من شخص واحد من كل ثلاثة أشخاص (39%) إلى أنهم يمضون أيامًا دون تناول طعام، ويضحي البالغون بوجباتهم من أجل إطعام أطفالهم.

سوء التغذية بين الأطفال في غزة

ويتزايد سوء التغذية بين الأطفال في غزة بوتيرة كارثية، وفي يوليو وحده، صُنِّف أكثر من 12,000 طفل على أنهم يعانون من سوء التغذية الحاد، وهو أعلى رقم شهري سُجّل على الإطلاق وزيادة قدرها ستة أمثال منذ بداية العام.

وكان ما يقرب من طفل من كل أربعة من هؤلاء الأطفال يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم، وهو الشكل الأشد فتكًا الذي له آثار قصيرة وطويلة الأجل على حد سواء.

ومنذ إجراء آخر تحليل للتصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي في مايو، تضاعف عدد الأطفال المتوقع أن يكونوا معرضين بشدة لخطر الوفاة بسبب سوء التغذية بحلول نهاية يونيو 2026 ثلاث مرات من 14,100 إلى 43,400 طفل.

وبالمثل، فقد تضاعف العدد التقديري للحالات في صفوف الحوامل والمرضعات ثلاث مرات من 17,000 في مايو إلى 55,000 امرأة يُتوقع أن تعاني مستويات خطيرة من سوء التغذية بحلول منتصف عام 2026. والتأثير واضح: يولد طفل من بين كل خمسة أطفال ولادة مبتسرة أو دون الوزن الطبيعي.

ويشير التقييم الجديد إلى التدهور الأكثر حدة منذ أن بدأ التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي في تحليل انعدام الأمن الغذائي الحاد وسوء التغذية الحاد في قطاع غزة، وهي المرة الأولى التي يتأكد فيها رسميًا حدوث مجاعة في إقليم الشرق الأوسط.

ومنذ يوليو، زادت الإمدادات الغذائية والمعونة التي تدخل غزة زيادة طفيفة ولكنها ظلت غير كافية إلى حد بعيد وغير مستمرة ويتعذر الوصول إليها مقارنةً بالحاجة.

تضرر الأراضي الزراعية في غزة ووقف الإنتاج الغذائي

وفي الوقت نفسه، فإن ما يقرب من 98% من الأراضي الزراعية متضررة أو يتعذر الوصول إليها، وهو ما يدمر القطاع الزراعي والإنتاج الغذائي المحلي، وقد نزح تسعة من كل عشرة أشخاص بشكل متكرر من المنازل.

والأموال النقدية شحيحة للغاية، ولا تزال عمليات المعونة مُعطلة بشدة، ومعظم شاحنات الأمم المتحدة تتعرض للنهب وسط حالة من اليأس المتزايد.

وأسعار الأغذية مرتفعة للغاية ولا يوجد ما يكفي من الوقود والمياه للطهي والأدوية والإمدادات الطبية.

و تدهور النظام الصحي في غزة تدهورًا شديدًا، وانخفضت فرص الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الإصحاح انخفاضًا شديدًا، في حين تتزايد حالات العدوى المقاومة للأدوية المتعددة وترتفع معدلات المراضة - ومنها الإسهال والحمى والأمراض التنفسية والجلدية الحادة - على نحو مثير للقلق بين الأطفال.

العمليات الإنسانية المنقذة للأرواح

ولتمكين العمليات الإنسانية المنقذة للأرواح، شددت وكالات الأمم المتحدة على أهمية وقف فوري ومستدام لإطلاق النار لوقف القتل، والسماح بالإفراج الآمن عن الرهائن والسماح بوصول المساعدات إلى الناس في جميع أنحاء غزة دون عوائق.

وشددت أيضًا على الحاجة المُلحة إلى توفير كميات أكبر من المعونة الغذائية، إلى جانب تحسين عمليات الإيصال والتوزيع وإمكانية الوصول بشكل كبير، فضلًا عن توفير المأوى والوقود وغاز الطهي ومدخلات إنتاج الأغذية. وشددت هذه الوكالات أيضًا على الأهمية البالغة لدعم إعادة تأهيل النظام الصحي، والحفاظ على الخدمات الصحية الأساسية وإنعاشها، ومنها الرعاية الصحية الأولية، وضمان استمرار تقديم الإمدادات الصحية إلى غزة وفي جميع أنحائها.

كما أن استعادة التدفقات التجارية على نطاق واسع، ونُظُم السوق، والخدمات الأساسية، والإنتاج الغذائي المحلي أمر حيوي لتجنب أسوأ نتائج المجاعة.

فيديو قد يعجبك: