حسام غنيم يكتب: المريض "الجوجل"

دكتور حسام غنيم
أعترف أنني شخص ليس من صفاته الصبر وهذا أحد أكبر عيوبي وليس كلها.. لكني كطبيب يحترم مرضاه وشكواهم وطريقتهم في التعبير عن معاناتهم تعودت على الصبر معهم وعليهم.. خصوصًا المتحذلقين منهم الذين يشخصون ويعالجون أنفسهم عن طريق الإنترنت "جوجل" ثم يأتون في بأس!
اليوم فقدت حتى ذلك الصبر المصطنع.. جاء إليَّ رجلًا في طوارئ المستشفي الخاص الذي أعمل به.. في السبعين من عمره، يبدوا من أناقته و عائلته أنه ميسور الحال ومن طبقة المتعلمين المثقفين.. يشكو إمساكًا شديدًا منذ ما يزيد عن أسبوع كامل بلا حتى ريح يريح أمعائه وحالته غير مستقره طبيًا، فهو في حالة انسداد معوي واضح.
حكى لي كيف أنه شخّص نفسه عن طريق جوجل بأن حالته مجرد احتباس كتلة صلبة من الفضلات في آخر القولون وأنه تعود على تلك الحالة فهي تتكرر معه منذ ما يقرب من عام وتهدأ مع الملينات.. ويريد أن أقوم بعمل منظار قولوني قصير لتفتيتها حيث أن الملينات لم تجد هذه المرة.. وكان يتحدث معي كزميل أكبر سنًا وعلمًا.. "طبعًا فاهمني يا دكتور، بلاش بأه شغل الدكاترة بتاع تدخل مستشفى وتعمل تحاليل و أشعات"!
كتمت غيظي وأجبت بحرفية وهدوء: "الحقيقة مش موافق حضرتك على التشخيص النهائي، أنت في حالة انسداد معوي ربما يكون سببها كما أشرت لكن هناك احتمالات أخرى كثيرة.. لا بد من دخولك المستشفى وعمل بعض الإسعافات الأولية التي تشمل لبوس الجلسرين وربما حقنة شرجية واحدة فقط لا غير و تركيب أنبوب معدة و بعض الفحوصات المعملية و أشعة مقطعية بالصبغة شرابًا، ومناظرة طبيب الجراحة ثم نقرر إذا كان يلزم عمل منظار أو ربما جراحة عاجلة".. وهنا تدخلت بنته في الحديث مستائة من خطة التعامل التي وضعتها ومتهكمة "هتفتح علينا فتحة يعني".. لم ألتفت إليها لأحافظ على هدوئي وكررت كلامي نصًا مع المريض وزوجته بشيء من الحزم والقرار.. فردت زوجته "هو مطلع و أدرى بحالته، ده بيشخص حالات العائلة كلها، ريحه بس وإن شاء الله هيطلع كده"!.
ومرة أخرى كررت كلامي بالنص وزدت: "حضرتك في حالة حرجة وقد تمثل خطر على حياتك".. وافق الرجل على مضدد في بادئ الأمر وما أن سلمته ورقة دخول المستشفي بها تعليمات للنائب وما يجب عمله من فحوصات معملية وأشعة وعلاج مبدئي حتى صاح في وجهي: "يعني أنا جاي مستشفي علشان أحط لبوس وأعمل حقنة شرجية؟ ما كنت عملت كده في البيت؟"، فأشرت له بأنني كتبت أكثر من ذلك فرد في استغراب: "ما اللي رحتله قبلك كتب كده برضو علشان يشغل المستشفى بتاعته".. وهنا فقدت كل ما درّبت نفسي عليه من صبر ومثابرة.. كان نفسي أقول له خلي جوجل ينفعك ولكن بكل حزم وحسم وهدوء قلت له "يمكنك الذهاب لطبيب آخر، ويمكنني أن أرشح لك الأكفأ منّي، لكن بسرعة لأن حياتك في خطر، مع السلامة أو أهلًا و سهلًا إذا أردت مساعدتي بما أرى أنه صواب".. هاج وماج وأخذ يعطيني درسًا في أخلاق وكيفية التعامل مع المرضى المثقفين الذين لا ينطلي عليهم حيل الأطباء!.
المهم.. استسلم في آخر الأمر وبعد عمل كل الفحوصات اتضح انه يعاني مِن ورم خبيث بالقولون أدى إلى انسداد معوي.. وتم إجراء جراحة لاستئصاله ولكنه للأسف انتشر إلى الكبد وذلك للتأخر في التشخيص.. ويا ليته استفاد من جوجل كمعلومات عامة وإرشادات للصحة مثل أهمية التشخيص المبكر للأورام ونظم الغذاء الصحي بدلًا من تقمص دور الطبيب العالم.. والعلم في جوجل مش في الكراس!
حزنت.. حزنت على كل شيء.. حزنت على ما آلت إليه سمعة الطبيب المصري جرّاء أفعال معدومي الضمير منهم.. وحزنت على مستوى المثقف المصري الضحل الذي لا يعرف الفارق بين الثقافة العامة والعلم.. وحزنت على هذا المريض "الجوجل".
فيديو قد يعجبك: